فصل: فصل: في التلجئة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثاني

كتاب البيوع

البيع في اللغة‏:‏ مطلق المبادلة، وكذلك الشراء، سواء كانت في مال أو غيره‏.‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وفي الشرع‏:‏ مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكا وتملكا، فإن وجد تمليك المال بالمنافع فهو إجارة أو نكاح، وإن وجد مجانا فهو هبة، وهو عقد مشروع ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة والمعقول‏.‏ أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وأما السنة فلأنه صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتبايعون فأقرهم عليه، وقد باع عليه الصلاة والسلام واشترى مباشرة وتوكيلا، وعلى شرعيته الإجماع‏.‏ والمعقول وهو أن الحاجة ماسة إلى شرعيته، فإن الناس محتاجون إلى الأعواض والسلع والطعام والشراب الذي في أيدي بعضهم ولا طريق لهم إلا البيع والشراء، فإن ما جبلت عليه الطباع من الشح والضنة وحب المال يمنعهم من إخراجه بغير عوض، فاحتاجوا إلى المعاوضة فوجب أن يشرع دفعا لحاجته وركنه الإيجاب والقبول لأنهما يدلان على الرضا الذي تعلق به الحكم، وكذا ما كان في معناهما‏.‏ وشرطه‏:‏ أهلية المتعاقدين حتى لا ينعقد من غير أهل‏.‏ ومحله‏:‏ المال لأنه ينبئ عنه شرعا‏.‏ وحكمه‏:‏ ثبوت الملك للمشتري في المبيع والبائع في الثمن إذا كان باتا، وعند الإجازة إذا كان موقوفا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏البيع ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظي الماضي كقوله‏:‏ بعت واشتريت‏)‏ لأنه إنشاء، والشرع قد اعتبر الإخبار إنشاء في جميع العقود فينعقد به، ولأن الماضي إيجاب وقطع، والمستقبل عدة أو أمر وتوكيل، فلهذا انعقد بالماضي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وبكل لفظ يدل على معناهما‏)‏ كقوله أعطيتك بكذا، أو خذه بكذا، أو ملكتك بكذا، فقال‏:‏ أخذت، أو قبلت، أو رضيت، أو أمضيت، لأنه يدل على معنى القبول والرضى، والعبرة للمعاني‏.‏ وكذلك لو قال المشتري‏:‏ اشتريت بكذا، فقال البائع‏:‏ رضيت، أو أمضيت، أو أجزت لما ذكرنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وبالتعاطي‏)‏ في الأشياء الخسيسة والنفيسة، نص عليه محمد لأنه يدل على الرضا المقصود من الإيجاب والقبول‏.‏ وذكر الكرخي أنه ينعقد بالتعاطي في الأشياء الخسيسة فيما جرت به العادة، ولا ينعقد فيما لم تجر به العادة؛ ولو قال بعني‏:‏ فقال‏:‏ بعت، أو قال‏:‏ اشتر مني، فقال‏:‏ اشتريت، لا ينعقد حتى يقول اشتريت أو بعت، لأن قوله بعني واشتر ليس بإيجاب وإنما هو أمر، فإذا قال‏:‏ بعت أو اشتريت فقد وجد شطر العقد، فلا بد من وجود الآخر ليتم‏.‏ وقيل‏:‏ إذا نوى الإيجاب في الحال انعقد البيع وإلا فلا، وعلى هذا أبيعك هذا العبد أو أعطيكه، فيقول الآخر أشتريه أو أقبله أو آخذه إن نوى الأصح وإلا فلا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا أوجب أحدهما البيع فالآخر إن شاء قبل وإن شاء رد‏)‏ لأنه مخيّر غير مجبر فيختار أيهما شاء، وهذا خيار القبول، ويمتد في المجلس للحاجة إلى التفكر والتروي والمجلس جامع للمتفرقات، ويبطل بما يبطل به خيار المخيرة لأنه يدل على الإعراض، وللموجب الرجوع لعدم إبطال حق الغير، وليس للمشتري القبول في البعض، لأنه تفريق الصفقة وأنه ضرر بالبائع، فإن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد في البيع لترويج الرديء، فلو صح التفريق يزول الجيد عن ملكه فيبقى الرديء فيتضرر بذلك، وكذلك المشتري يرغب في الجميع، فإذا فرّق البائع الصفقة عليه يتضرر ‏(‏وأيهما قام قبل القبول بطل الإيجاب‏)‏ لأنه يدل على الإعراض وعدم الرضا وله ذلك وشطر العقد لا يتوقف على قبول الغائب كمن قال‏:‏ بعت من فلان الغائب فبلغه فقبل لا ينعقد إلا إذا كان بكتابة أو رسالة، فيعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة، وعلى هذا الإجارة والهبة والكتابة والنكاح؛ ولو تبايعا وهما يمشيان أو يسيران إن لم يفصلا بين كلاميهما بسكتة انعقد البيع، وإن فصلا لم ينعقد؛ وقال بعضهم‏:‏ ينعقد ما لم يتفرقا بالأبدان، والأول أصح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا وجد الإيجاب والقبول لزمهما البيع بلا خيار مجلس‏)‏ لأن العقد تم بالإيجاب والقبول لوجود ركنه وشرائطه، فخيار أحدهما الفسخ إضرارا بالآخر لما فيه من إبطال حقه، والنص ينفيه؛ وما روي من الحديث محمول على خيار القبول، هكذا قاله النخعي لأن قوله المتبايعان يقتضي حالة المباشرة، وقوله ما لم يتفرقا‏:‏ أي بالأقوال لأنه يحتمله فيحمل عليه توفيقا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا بد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة‏)‏ قطعا للمنازعة، فإن كان حاضرا فيكتفي بالمباشرة، لأنها موجبة للتعريف قاطعة للمنازعة‏.‏ وإن كان غائبا، فإن كان مما يعرف بالأنموذج كالكيلي والوزني والعددي المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع، إلا أن يختلف فيكون له خيار العيب، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعا للمنازعة ويكون له خيار الرؤية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا بد من معرفة مقدار الثمن وصفته إذا كان في الذمة‏)‏ قطعا للمنازعة إلا إذا لم يكن في البلد نقود لتعينه ‏(‏ومن أطلق الثمن فهو على غالب نقد البلد‏)‏ للتعارف‏.‏ ولو قال‏:‏ اشتريت هذا الدار بعشرة، أو هذا الثوب بعشرة، أو هذا البطيخ بعشرة وهو في بلد يتعامل الناس بالدنانير والدراهم والفلوس، انصرف في الدار إلى الدنانير، وفي الثوب إلى الدراهم، وفي البطيخ إلى الفلوس بدلالة العرف، وإن لم يتعاملوا بها ينصرف إلى المعتاد عندهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع الكيلي والوزني كيلا ووزنا ومجازفة‏)‏ ومراده عند اختلاف الجنس، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم»‏.‏ ولأنه لا ربا إلا عند المقابلة بالجنس، لأنه لا تتحقق الزيادة إلا فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز في قفيز واحد‏)‏ عند أبي حنيفة إلا أن يعرف جملة قفزانها، إما بالتسمية أو بالكيل في المجلس‏.‏ وقالا‏:‏ يجوز في الكل لأن زوال الجهادة بيدها ولا تفضي إلى المنازعة‏.‏ وله أنه تعذر الصرف إلى الجميع للجهالة في المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل‏.‏ وهو الواحد لأنه معلوم‏.‏ فإذا زالت الجهالة جاز في الجميع لزوال المانع، وإذا جاز البيع في الواحد يثبت للمشتري الخيار لتفرق الصفقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم لم يجز في شيء منها والثياب‏)‏ والمعدود التفاوت ‏(‏كالغنم‏)‏ وعندهما يجوز في الكل لما مر‏.‏ وله أن قضية ما ذكرنا الجواز في واحد، غير أن الواحد في هذه الأشياء يتفاوت فيؤدي إلى المنازعة فصار كالمجهول فلا يجوز‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن سمى جملة القفزان والذرعان والغنم جاز في الجميع‏)‏ لانتفاء الجهالة وزوال المانع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن باع دارا دخل مفاتيحها وبناؤها في البيع‏)‏ لأن المفاتيح تبع للأبواب، والأبواب متصلة بالبناء للبقاء، والبناء متصل بالعرصة اتصال قرار، فصارت كالجزء منها فتدخل في البيع، ولأن الدار اسم للعرصة والبناء فيدخل في بيع الدار ‏(‏وكذلك الشجر في بيع الأرض‏)‏ لأن اتصاله كاتصال البناء بخلاف الزرع والثمرة، لأن اتصالهما ليس للقرار فصار كالمتاع، ويقال للبائع‏:‏ اقطع الثمرة واقلع الزرع وسلم المبيع، لأنه يجب عليه تسليم المبيع إلى المشتري عملا بمقتضى البيع، ولا يمكن ذلك إلا بالتفريق فيجب عليه ذلك، ولو شرطهما دخلا في البيع عملا بالشرط‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من اشترى نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع»‏.‏ ولو اشترى دارا وذكر حدودها دخل السفل والعلو والإصطبل والكنيف والأشجار، لأن الدار اسم لما أدير عليه الحدود، وأنه يدور على جميع ما ذكرنا؛ والبستان إذا كان خارج الدار إن كان أصغر منها دخل لأنه من توابع الدار عرفا، وإن كان مثلها أو أكبر لا يدخل إلا بالشرط لخروجه عن الحدود؛ وتدخل الظلة عندهما إذا كان مفتحها إليها، لأنها تعد من الدار عرفا‏.‏ وعند أبي حنيفة لا تدخل، لأن أحد طرفيها على حائط الدار فيتبعها، والطرف الآخر على دار أخرى أو على أسطوانة فلا تتبعها، فلا تدخل بالشك حتى تذكر الحقوق، والظلة‏:‏ هي التي على ظهر الطريق وهو الساباط، ويدخل الطريق إلى السكة لأنه لا بد منه‏.‏ ولو اشترى منزلا فوقه منزل لا يدخل إلا أن تذكر الحقوق أو كل قليل وكثير، لأن المنزل اسم لما يشتمل عليه مرافق السكنى، لأنه من النزول وهو السكنى، والعلو مثل السفل في السكنى من وجه دون وجه، فيكون تبعا من وجه أصلا من وجه، فإن ذكر الحقوق دخل وإلا فلا‏.‏ ولو اشترى بيتا لا يدخل العلو وإن ذكر الحقوق حتى ينص عليه، لأن البيت ما يبات فيه، وعلوه مثله في البيتوتة فلا يدخل فيه إلا بالشرط‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع الثمرة قبل صلاحها‏)‏ والمراد إذا كانت ينتفع بها للأكل أو العلف لأنه مال متقوم منتفع به؛ وأما إذا لم يكن منتفعا بها لا يجوز لأنه ليس بمال متقوم ‏(‏ويجب قطعها للحال‏)‏ ليتفرغ ملك البائع ‏(‏وإن شرط تركها على الشجر فسد البيع‏)‏ لأنه إعارة أو إجارة في البيع، فيكون صفقتين في صفقة وأنه منهي عنه، وكذا الزرع في الأرض؛ وإن تركها بأمره بغير شرط جاز وطاب الفضل، وإن كان بغير أمره تصدق بالفضل لحصوله بأمر محظور؛ وإن استأجر الشجر طاب له الفضل لوجود الإذن، وبطلت الإجارة لأنه غير معتاد؛ وكذا إذا اشتراها بعدما تناهى عظمها يجب القطع للحال لما قلنا، فإن تركها طاب الفضل ولم يتصدق بشيء بكل حال لأنه لا زيادة وإنما هو تغير وصف؛ فإن شرط بقاءها على الشجر جاز عند محمد استحسانا للعرف، بخلاف ما إذا لم تتناه في العظم لأنه يزداد بعد ذلك فقد أشرط الجزء المعدوم فلا يجوز؛ فإن خرج بعض الثمرة أو خرج الكل لكن بعضه منتفع به لا يجوز البيع للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوم وغير المتقوم فتبقى حصة الموجود مجهولة؛ وكان شمس الأئمة الحلواني والإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يفتيان بجوازه في الثمار والباذنجان ونحوهما، جعلا المعدوم تبعا للموجود للتعامل دفعا للحرج بالخروج عن العادة، وعن محمد الجواز في بيع الورد لأنه متلاحق‏.‏ قال شمس الأئمة السرخسي‏:‏ والأول أصح إذ لا ضرورة في ذلك لأنه يمكنه أو يشتري أصولها أن يشتري الموجود بجميع الثمن ويحل له البائع ما يحدث، ولو اشتراها مطلقا وأثمر ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع لتعذر التمييز قبل التسليم، وإن أثمرت بعد القبض يشتركان، والقول للمشتري في قدره لأنه في يده وهو منكر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز أن يبيع ثمرة ويستثني منها أرطالا معلومة‏)‏ لجهالة الباقي، وقيل يجوز لجواز بيعه ابتداء؛ والأصل أن ما جاز بيعه ابتداء يجوز استثناؤه كبيع صبرة إلا قفيزا وقفيز من صبرة، بخلاف الحمل وأطراف الحيوان حيث لا يجوز استثناؤه لأنه لا يجوز بيعه ابتداء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره‏)‏ وكذا السمسم والأرز والجوز واللوز لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، ولأنه مال منتفع به فيجوز بيعه وعلى البائع تخليصه بالدياس والتذرية، وكذا قطن في فراش وعلى البائع فتقه لأنه عليه تسليمه‏.‏ أما جذاذ الثمرة وقطع الرطبة وقلع الجذور والبصل وأمثاله على المشتري لأنه يعمل في ملكه وللعرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع الطريق وهبته، ولا يجوز ذلك في المسيل‏)‏ لأن الطريق موضع من الأرض معلوم الطول والعرض فيجوز؛ والمسيل‏:‏ موضع جريان الماء وهو مجهول لأنه يقل ويكثر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن باع سلعة بثمن سلمه أولا‏)‏ تحقيقا للمساواة بين المتعاقدين، لأن البيع يتعين بالتعيين، والثمن لا يتعين إلا بالقبض، فلهذا اشترط تسليمه ‏(‏إلا أن يكون مؤجلا‏)‏ لأنه أسقط حقه بالتأجيل ولا يسقط حق الآخر ‏(‏وإن باع سلعة بسلعة أو ثمنا بثمن سلما معا‏)‏ تسوية بينهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز بيع المنقول قبل القبض‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض، ولأنه عساه يهلك فينفسخ البيع فيكون غررا، وكذا كل ما ينفسخ العقد بهلاكه كبدل الصلح والإجارة لما ذكرنا، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه يجوز التصرف فيه قبل القبض كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد لأنه لا غرر فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع العقار قبل القبض‏)‏ وقال محمد‏:‏ لا يجوز لإطلاق ما روينا وقياسا على المنقول‏.‏ ولهما أن المبيع هو العرصة، وهي مأمونة الهلاك غالبا فلا يتعلق به غرر الانفساخ حتى لو كانت على شاطئ البحر، أو كان المبيع علوا لا يجوز بيعه قبل القبض؛ والمراد بالحديث النقلي، لأن القبض الحقيقي إنما يتصور فيه وعملا بدلائل الجواز، ثم إن كان نقد الثمن في البيع الأول فالثاني نافذ وإلا فموقوف كبيع المرهون والإجارة على هذا الاختلاف‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز بالاتفاق لأن المعقود عليه المنافع، وهلاكها غير نادر بهلاك البناء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز التصرف في الثمن قبل قبضه‏)‏ لقيام الملك، ولا يتعين ولا يكون فيه غرر الانفساخ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتجوز الزيادة في الثمن والسلعة، والحط من الثمن ويلتحق بأصل العقد‏)‏ وقال زفر‏:‏ وهي مبتدأة لأنه لا يمكن جعله ثمنا ومثمنا، لأنه يصير ملكه عوض ملكه فجعلناه هبة مبتدأة‏.‏ ولنا أن بالزيادة والحط غيّرا وصف العقد من الربح إلى الخسران أو بالعكس، وهما يملكان إبطاله فيملكان تغييره، ولا بد في الزيادة من القبول في المجلس لأنها تمليك، ولا بد أن يكون المعقود عليه قائما قابلا للتصرف ابتداء حتى لا تصح الزيادة في الثمن بعد هلاكه، ويصح الحط بعد هلاك المبيع لأنه إسقاط محض والزيادة إثبات، ولو حط بعض الثمن والمبيع قائم التحق بأصل العقد، وإن حط الجميع لم يلتحق لأنه يصير الثمن كأن لم يكن فيبطل الحط، وإذا صحت الزيادة يصير لها حصة من الثمن فيظهر ذلك في المرابحة والتولية، ولو هلكت قبل القبض سقط حصتها من الثمن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن باع بثمن حال ثم أجله صح‏)‏ لأنه حقه؛ ألا ترى أنه يملك إسقاطه فيملك تأجيله‏؟‏ وكل دين حال يصح تأجيله لما ذكرنا إلا القرض لأنه صلة ابتداء حتى لا يجوز ممن لا يملك التبرعات، والتأجيل في التبرعات غير لازم كالإعارة معاوضة انتهاء، ولا يجوز التأجيل فيه لأنه يصير بيع الدرهم بالدرهم نسيئة وأنه حرام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن ملك جارية يحرم عليه وطؤها ودواعيه حتى يستبرئها بحيضة أو شهر أو وضع حمل‏)‏ وأصله قوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس‏:‏ «ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا الحيالى حتى يستبرئن بحيضة»‏.‏

نهى عن وطئ المملوكات بالسبي إلى غاية الاستبراء، فيتعلق الحكم به عند تجدد الملك بأي سبب كان كالشراء والهبة والوصية والميراث ونحوها، والشهر كالحيضة عند عدمها لما عرف؛ وإن حاضت في أثناء الشهر انتقل إلى الحيضة كما في العدة؛ والمعتبر ما يوجد بعد القبض حتى لو حاضت أو وضعت قبل القبض يجب الاستبراء، وكما يحرم الوطء يحرم دواعيه احترازا عن الوقوع فيه كما في العدة، بخلاف الحيض لأن الحرمة للأذى ولا أذى في الدواعي؛ ومن وطئ جاريته ثم أراد أن يبيعها أو يزوجها يستحب له أن يستبرئها، وإن لم يستبرئها فالأحسن للزوج أن يستبرئها‏.‏

وأما ممتدة الطهر، قال أبو حنيفة‏:‏ لا يطؤها حتى تتيقن بعدم الحمل، وروي عنه سنتان وهو الأحوط وهو قول زفر، لأن الولد لا يبقى أكثر من سنتين على ما عرف‏.‏ وعنه أربعة أشهر وعشرة أيام، وهو قول محمد لأنها عدة الوفاة للحرة تعرف بها براءة الرحم‏.‏ وعن محمد شهران وخمسة أيام لأنه عدة الأمة، وعن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف ثلاثة أشهر لأنها تعرف براءة الرحم في حق الآيسة والصغيرة‏.‏ وعند الشافعي أربع سنين لأنه أكثر مدة الحمل عنده‏.‏

وقال أبو مطيع البلخي‏:‏ تسعة أشهر لأنه المعتاد في مدة الحمل؛ ويجب الاستبراء إذا حدث له ملك الاستمتاع بملك اليمين، سواء وطئها البائع أولا، أو كان بائعها ممن لا يطأ كالمرأة والصغير والأخ من الرضاع، وكذا إن كانت بكرا‏.‏ وعن أبي يوسف أنه لا استبراء في هذه الصورة، وهو قول مالك، وعلى هذا الخلاف إذا حاضت في يد البائع بعد البيع قبل القبض لأن الاستبراء للتعرف على براءة الرحم وهي ثابتة في هذه الصور ظاهرا‏.‏ وجه الأول أن سبب الاستبراء الإقدام على الوطء في ملك متجدد بملك اليمين، وحكمته التعرف عن براءة الرحم، والحكم يدار على السبب لا على الحكمة؛ ولو اشترى امرأته فلا استبراء لأنه لا يجب صيانة مائه عن مائه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع معلما كان أو غير معلم‏)‏ لأنه حيوان منتفع به حراسة واصطيادا فيجوز ولهذا ينتقل إلى ملك الموصى له والوارث، بخلاف الحشرات كالحية والعقرب والضب والقنفذ ونحوها، لأنه لا ينتفع بها‏.‏ وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور لأنه ممنوع عن إمساكه مأمور بقتله؛ ويجوز بيع الفيل‏.‏ وفي بيع القرد روايتان عن أبي حنيفة، والأصح الجواز لأنه ينتفع بجلده‏.‏ وعن أبي حنيفة جواز بيع الحي من السرطان والسلحفاة والضفدع دون الميت منه؛ ويجوز بيع العلق لحاجة الناس إليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأهل الذمة في البيع كالمسلمين‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا قبلوا الجزية فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين»‏.‏ ‏(‏ويجوز لهم بيع الخمر والخنزير‏)‏ لأنه من أعز الأموال عندهم، وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون، يؤيده قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ولوهم بيعها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع الأخرس، وسائر عقوده بالإشارة المفهومة‏)‏ ويقتص منه وله، ولا يحد للقذف ولا يحد له، وكذلك إذا كان يكتب، لأن الكتابة من الغائب كالخطاب من الحاضر والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بتبليغ الرسالة، وقد بلغ البعض بالكتاب، وإنما جاز ذلك لمكان العجز، والعجز في الأخرس أظهر، ولا يجوز ذلك فيمن اعتقل لسانه أو صمت يوما، لأن الإشارة إنما تعتبر إذا صارت معهودة ومعلومة، فمن كان كذلك فهو بمنزلة الأخرس بخلاف الحدود لأنها تندرئ بالشبهات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بيع الأعمى وشراؤه‏)‏ لأن الناس تعاهدوا ذلك من لدن الصدر الأول إلى يومنا هذا، ومن الصحابة من عمي وكان يتولى ذلك من غير نكير‏.‏

والأصل فيه حديث حبان بن منقذ، وهو ما رواه عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا ابتعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام»‏.‏ وكان أعمى ذكره الدارقطني‏.‏ ولأن من جاز له التوكيل جاز له المباشرة كالبصير ‏(‏ويثبت له خيار الرؤية‏)‏ لأنه اشترى ما لم يره على ما يأتي إن شاء الله تعالى ‏(‏ويسقط خياره بجس المبيع أو بشمه أو بذوقه، وفي العقار بوصفه‏)‏ وفي الثوب بذكر طوله وعرضه لأنه يحصل له بذلك العلم بالمشترى كالنظر من البصير وبل أكثر؛ ولو وصف له العقار ثم أبصر لا خيار له؛ ولو اشترى البصير ما لم يره ثم عمي فهو كالأعمى عند العقد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الإقالة‏]‏

‏(‏الإقالة جائزة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة»‏.‏ ولأن للناس حاجة إليها كحاجتهم إلى البيع فتشرع، ولأنها ترفع العقد فصارت كالطلاق مع النكاح ‏(‏وتتوقف على القبول في المجلس‏)‏ لأنها بمنزلة البيع لما فيها من معنى التمليك، وتصح بلفظين يعبر بأحدهما عن المستقبل لأنها لا يحضرها السوم غالبا كالنكاح‏.‏

وقال محمد‏:‏ لا بد من لفظين ماضيين لأنها تمليك بعوض كالبيع، وجوابه ما مرّ، ولا تصح إلا بلفظ الإقالة، فلو تقايلا بلفظ البيع كان بيعا بالإجماع، لأن الإقالة تنبئ عن الرفع والبيع عن الإثبات فتتنافيا؛ ولا تبطل بالشروط الفاسدة عند أبي حنيفة، وتبطل عند أبي يوسف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهي فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق ثالث‏)‏ عند أبي حنيفة، فإن تعذر جعلها فسخا بطلت‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ بيع جديد في حق الكل، فإن تعذر ففسخ، فإن لم يمكن بطل‏.‏ وقال محمد‏:‏ فسخ، فإن تعذر فبيع، فإن لم يمكن بطل‏.‏ وقال زفر‏:‏ فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما وصورته‏:‏ لو تقايلا قبل القبض فهو فسخ بالإجماع، ويبطل شرط الزيادة والنقصان، أما عندهما فظاهر، وكذا عند أبي يوسف لأنه تعذر جعله بيعا إلا في العقار حيث يجوز بيعه قبل القبض عنده‏.‏ ولو تقايلا بعد القبض فهو فسخ عند أبي حنيفة، ويلزمه الثمن الأول جنسا ووصفا وقدرا، ويبطل ما شرطه من الزيادة والنقصان والتأجيل والتغيير، لأن الإقالة رفع فيقتضي رفع الموجود، والزيادة لم تكن فلا ترفع إلا إذا حدث بالمبيع عيب، فيجوز بأقل من الثمن الأول، لأن النقصان في مقابلة العيب، ولو حدثت الزيادة في المبيع كالولد ونحوه بعد القبض بطلت الإقالة عنده لتعذر الفسخ بسبب الزيادة، وعند أبي يوسف الإقالة جائزة بما سميا كالبيع الجديد، وحدوث الزيادة بعد القبض لا يمنع ذلك‏.‏ وعند محمد إن سكت أو سمى الثمن الأول أو أقل أو دخله عيب فهو فسخ، أما إذا سمى الأقل فلأنه سكوت عن البعض، ولو سكت عن الكل كان فسخا فكذا عن البعض، وأما إذا ذكر الثمن الأول فظاهر، وأما إذا دخله عيب فلما مرّ، وإن سميا أكثر أو خلاف الجنس أو حدثت الزيادة فهو بيع جديد لتعذر الفسخ‏.‏ وجه قول محمد أنه فسخ بصيغته، لأن الإقالة تنبئ عن الرفع‏.‏

ومنه‏:‏ أقلني عثرتي بمعنى الرفع والإزالة، وفيه معنى البيع لكونه مبادلة المال بالمال، فإذا أمكن العمل بالصيغة يعمل بها وإلا يعمل بالمعنى، فإذا سكت أو سمى الثمن الأول أو أقل منه أو دخله عيب فقد أمكن العمل بالصيغة لما بينا‏.‏ ولأبي يوسف أنه بيع لأنه مبادلة المال بالمال عن تراض فيعمل به إلا إذا تعذر فيعمل بالصيغة، وإنما تعذر عنده في الإقالة في المنقول قبل القبض على ما تقدم‏.‏ ولأبي حنيفة أن الإقالة تنبئ عن الفسخ والإزالة لما بينا، فلا تحتمل معنى آخر نفيا للاشتراك، والأصل العمل بحقيقة اللفظ، فإذا تعذر لا يجعل بيعا مبتدأ لأنه ضد الرفع فيبطل‏.‏ وأما كونه بيعا في حق ثالث وهو الشفيع، فصورته‏:‏ باع دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم تقايل البائع والمشتري، فللشفيع الشفعة خلافا لزفر، لأن ما هو فسخ في حقهما فهو فسخ في حق غيرهما كالرد بخيار الشرط‏.‏ وجوابه أن الإقالة نقل ملك بإيجاب وقبول بعوض مالي وهو سبب وجوب الشفعة، وهما عبرا عنه بالإقالة لإسقاط حقه، ولا يملكان ذلك، وكذا لو وهبه شيئا وقبضه فباعه الموهوب له ثم تقايلا، ليس للواهب الرجوع ويصير الموهوب له كالمشتري‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهلاك المبيع يمنح صحة الإقالة‏)‏ لأن الفسخ يقتضي قيام البيع وهو ببقاء المبيع ‏(‏وهلاك بعضه يمنع بقدره‏)‏ لقيام البيع في الباقي ‏(‏وهلاك الثمن لا يمنع‏)‏ لقيام البيع بدونه، وإن تقايضا فهلاك أحدهما لا يمنع الإقالة، لأن كل واحد منهما مبيع، فيكون البيع قائما، ويرد قيمة الهالك أو مثله، لأنه إذا انفسخ في الباقي ينفسخ في الهالك ضرورة، وقد عجز عن رده فيرد عوضه، ولو هلك العوضان لا تصح الإقالة وتصح لو هلك البدلان عن الصرف، والفرق أن العقد يتعلق بالعين في العروض دون الأثمان فكذا في الإقالة، والله أعلم‏.‏

باب الخيارات

‏(‏خيار الشرط جائز للمتبايعين، ولأحدهما ثلاثة أيام فما دونها‏)‏ والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام لحبان بن منقذ وكان يخدع في البياعات‏:‏ «إذا ابتعت فقل لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام» ‏(‏ولا يجوز أكثر من ذلك‏)‏ وهو قول زفر، وقالا‏:‏ يجوز إذا ذكر مدة معلومة، لأن الخيار شرع نظرا للمتعاقدين للاحتراز عن الغبن والظلامة، وقد لا يحصل ذلك في الثلاث فيكون مفوضا إلى رأيه، ومذهبهما منقول عن ابن عمر، ولأبي حنيفة أن الأصل ينفي جواز الشرط لما فيه من نفي ثبوت الملك الذي هو موجب العقد فلا يصح كسائر موجبات العقد، وكذلك النص ينفيه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعتاب بن أسيد حين بعثه إلى مكة‏:‏ «انههم عن بيع وشرط، وبيع وسلف» وروي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وشرط، إلا أنا عدلنا عن هذه الأصول وقلنا بجوازه ثلاثة أيام لما روينا من حديث حبان، والحاجة إلى دفع الغبن تندفع بالثلاث فبقي ما وراءه على الأصل والحاجة للبائع والمشتري فثبت في حقهما؛ ولو شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام أو لم يبين وقتا، أو ذكر وقتا مجهولا فأجاز في الثلاث أو أسقطه، أو سقط بموته أو بموت العبد، أو أعتقه المشتري، أو أحدث فيه ما يوجب لزوم العقد ينقلب جائزا خلافا لزفر لأنه انعقد فاسدا فلا ينقلب جائزا‏.‏ ولأبي حنيفة أن المفسد لم يتصل بالعقد، لأن الفساد باليوم الرابع، حتى إن العقد إنما يفسد بمضي جزء من اليوم الرابع فيكون العقد صحيحا قبله، ولأنها مدة ملحقة بالعقد مانعة من انبرامه فجاز أن ينبرم بإسقاطه كالخيار الصحيح، وشرط خيار الأبد باطل بالإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن له الخيار لا يفسخ إلا بحضرة صاحبه‏)‏ أي بعلمه ‏(‏وله أن يجيز بحضرته وغيبته‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يفسخ بغيبته أيضا، لأن الخيار أثبت له حق الإجازة والفسخ، فكما تجوز الإجازة نع غيبته فكذا الفسخ‏.‏ ولهما أنه فسخ عقد فلا يصح من أحدهما كالإقالة، بخلاف الإجازة لأنها إبقاء حق الآخر فلا يحتاج إلى علمه، والفسخ إسقاط حقه فاحتاج إليه، فإذا فسخ بغيبته فعلم به في المدة تم الفسخ، وإن لم يعلم حتى مضت المدة تم العقد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وخيار الشرط لا يورث‏)‏ لأنه مشيئة وتروّ، وذلك لا يتصور فيه الإرث لأنه لا يقبل الانتقال‏.‏ أما خيار العيب فلأن المشتري استحق المبيع سليما فينتقل إلى وارثه كذلك‏.‏ وأما خيار التعيين فإنه ثبت له ابتداء لاختلاط ملك المورث بملك الغير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن اشترى عبدا على أنه خباز فكان بخلافه، فإن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده‏)‏ لأن هذا وصف والأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن فيأخذه بجميع الثمن، إلا أنه فاته وصف مرغوب فيه مستحق بالعقد، فبفواته يثبت له الخيار لأنه ما رضي بدونه كوصف السلامة، وعلى هذا اشتراط سائر الحرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وخيار البائع لا يخرج المبيع عن ملكه، وخيار المشتري يخرجه ولا يدخله في ملكه‏)‏ اعلم أن البيع بشرط الخيار لا ينعقد في حق حكمه وهو ثبوت الملك، بل يتوقف ثبوت حكمه على سقوط الخيار، لأنه بالخيار استثنى مباشرة العقد في حق الحكم فامتنع حكمه إلى أن يسقط الخيار، ثم الخيار إما أن يكون للبائع أو للمشتري أو لهما، فإن كان للبائع فلا يخرج المبيع عن ملكه لأنه إنما يخرج بالمراضاة، ولا رضا مع الخيار حتى نفذ إعتاق البائع، وليس للمشتري التصرف فيه، ولو قبضه المشتري وهلك في يده في مدة الخيار فعليه قيمته لأنه لم ينفذ البيع، ولا نفاذ للتصرف بدون الملك، فصار كالمقبوض على سوم الشراء وفيه القيمة، ولو هلك في يد البائع لا شيء على المشتري كالصحيح، ويخرج الثمن من ملك المشتري بالإجماع، ولا يدخل في ملك البائع عند أبي حنيفة خلافا لهما، وإن كان الخيار للمشتري يخرج المبيع عن ملك البائع، لأن البيع لزم من جانبه، ولا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، وعندهما يدخل، والثمن لا يخرج من ملك المشتري بالإجماع، ولا يملك البائع مطالبته قبل الثلاث‏.‏ وجه قولهما في الخلافيات أنه لما خرج المبيع عن ملك البائع وجب أن يدخل في ملك المشتري لئلا يصير سائبة بغير مالك ولا نظير له في الشرع‏.‏ ولأبي حنيفة أن الخيار شرع للتروي، فلو دخل في ملكه ربما فات ذلك بأن كان قريبا له فيعتق عليه، ولأن الثمن لم يخرج عن ملكه، فلو دخل المبيع في ملكه اجتمع البدلان في ملك واحد ولا نظير له في الشرع، وقضية المعاوضة المساواة، ودخوله في ملكه ينفيها، وإن هلك في يد المشتري هلك بالثمن، وكذلك إن دخلها عيب لأن بالعيب يمتنع الرد، والهلاك لا يخلو عن مقدمة عيب، فيهلك بعد انبرام العقد فيلزمه الثمن، ويعرف من هذين الفصلين الحكم فيما إذا كان الخيار لهما لمن يتأمله إن شاء الله تعالى‏.‏ وثمرة الخلاف تظهر في مسائل‏:‏ منها لو كان المشتري قريبا له لم يعتق عنده، ولو كانت زوجته لم ينفسخ النكاح خلافا لهما فيهما، وإن وطئها لا يبطل خياره، لأنه وطئها بحكم النكاح، إلا أن تكون بكرا أو نقصها الوطء، وعندهما يبطل النكاح، لأنه وطئها بملك اليمين، ولو كانت جارية قد ولدت منه لا تصير أم ولد له عنده خلافا لهما، ولو حاضت عنده في مدة الخيار ثم أجاز البيع لا يجتزئ بتلك الحيضة عن الاستبراء عنده، ولو ردها لا يجب على البائع الاستبراء عنده خلافا لهما فيهما، ويبتني على هذا الأصل مسائل كثيرة يعرفها من أتقن هذه الأصول‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن شرط الخيار لغيره جاز ويثبت لهما‏)‏ والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر لأنه موجب العقد، فلا يجوز اشتراطه لغير العاقد كالثمن‏.‏ وجه الاستحسان أنه يثبت له ابتداء ثم للغير نيابة تصحيحا لتصرفه ‏(‏وأيهما أجاز جاز، وأيهما فسخ انفسخ‏)‏ فإن أجاز أحدهما وفسخ الآخر فالحكم للأسبق، وإن تكلما معا فالحكم للفسخ، لأن الخيار شرع للفسخ فهو تصرف فيما شرع لأجله فكان أولى، وقيل تصرف المالك أولى كالموكل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويسقط الخيار بمضي المدة وبكل ما يدل على الرضا كالركوب والوطء والعتق ونحوه‏)‏‏.‏ اعلم أن الخيار يسقط بثلاثة أشياء‏:‏ أحدها الإسقاط صريحا كقوله‏:‏ أسقطت الخيار أو أبطلته، أو أجزت البيع، أو رضيت به وما شابهه لأنه تصريح بالرضى فيبطل الخيار‏.‏ والثاني الإسقاط دلالة، وهو كل فعل يوجد ممن له الخيار لا يحل لغير المالك لأنه رضي بالملك، وذلك مثل الوطء واللمس والقبلة والنظر إلى الفرج بشهوة، وإن فعله بغير شهوة لا يكون رضى، وكذلك النظر إلى سائر أعضائها، لأنه يحتاج إليه للمعالجة ويعرف لينها وخشونتها، ولو فعل البائع ذلك فهو فسخ لأنه لا يحتاج إلى ذلك، وكذلك الركوب لا يجوز لغير المالك، فإن ركبها ليردها أو ليسقيها أو ليشتري لها علفا فهو على خياره، وكذلك إذا سكن الدار أو أسكنها لدليل الرضى، ولو ركب أو لبس أو استخدم فهو على خياره لحاجته إلى ذلك للاختبار، ولو أعاد ذلك بطل خياره لعدم حاجته إليه إلا في العبد إذا استخدمه في حاجة أخرى لما بينا، وكذلك كل فعل لا يثبت حكمه في غير الملك كالعتق والتدبير والكتابة والبيع والإجارة والهبة مع القبض والرهن، والعرض على البيع من هذا القبيل، لأن كل ذلك يدل على الرضا بالملك‏.‏ والثالث سقوط الخيار بطريق الضرورة كمضي مدة الخيار وموت من له الخيار، فإن الخيار كان لهما فماتا تم العقد، وإن مات أحدهما فالآخر على خياره، ولو أغمي عليه أو جن أو نام أو سكر بحيث لا يعلم حتى مضت المدة الصحيح أنه يسقط الخيار، ولو داوى العبد أو عالج الدابة أو عمّر في الساحة أو رمّ شعث الدار أو لقح النخيل أو حلب البقرة بطل، لأن هذه التصرفات من خصائص الملك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خيار الرؤية‏]‏

‏(‏ومن اشترى ما لم يره جاز، وله خيار الرؤية‏)‏ معناه‏:‏ إن شاء أخذه وإن شاء رده، وكذا إن كان الثمن عينا ولم يره البائع‏.‏ والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه»‏.‏ ولأنه أحد العوضين فلا تشترط رؤيته للانعقاد كالثمن، ولأنه لا يفضي إلى المنازعة، لأنه إذا لم يرض به عند الرؤية يرده لعدم اللزوم، وإذا جاز العقد ثبت له الخيار بالحديث، وإنما يثبت الخيار عند الرؤية حتى لو أجاز البيع قبلها لا يلزم ولا يسقط خياره بصريح الإسقاط قبلها لأنه خيار ثبت شرعا فلا يسقط بإسقاطهم، بخلاف خياري الشرط والعيب لأنهما ثبتا بقصدهما وشرطهما، ويملك فسخه قبل الرؤية لأن الخيار له، ولا يمنع ثبوت الملك في البدلين، لكن يمنع اللزوم حتى لو باعه مطلقا أو بشرط الخيار للمشتري أو أعتقه أو دبره أو كاتبه أو رهنه أو وهبه وسلم قبل الرؤية لزم البيع، ولو شرط الخيار للبائع أو عرضه على البيع لا يلزم قبل الرؤية ويلزم بعدها لأنه لم يتعلق به حق الغير لكن رضي، والرضى قبل الرؤية لا يسقط الخيار‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن باع ما لم يره فلا خيار له‏)‏ وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة كان يقول أولا له الخيار، لأن اللزوم بالرضى، والرضى بالعلم بأوصاف البيع، والعلم بالرؤية؛ ثم رجع وقال‏:‏ لا خيار له، لأن النص أثبته للمشتري خوفا من تغير المبيع عما يظنه ودفعا للغبن عنه، فلو ثبت للبائع لثبت خوفا من الزيادة على ما يظنه من الأوصاف وذلك لا يوجب الخيار، ألا ترى أنه لو باع عبدا على أنه مريض فإذا هو صحيح لزمه ولا خيار له‏؟‏ وقد روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه باع أرضا بالكوفة من طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقيل لعثمان‏:‏ غبنت‏؟‏ قال‏:‏ لي الخيار فإني بعت ما لم أره، وقيل لطلحة‏:‏ غبنت‏؟‏ فقال‏:‏ لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره، فاحتكما إلى جبير بن مطعم، فحكم بالخيار لطلحة وذلك بمحضر من الصحابة‏.‏ فحكم جبير، ورجوعهما إلى حكمه وعدم وجود النكير من أحد من الصحابة دل على أنه إجماع منهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويسقط برؤية ما يوجب العلم بالمقصود كوجه الآدمي ووجه الدابة وكفلها، ورؤية الثوب مطويا ونحوه‏)‏ لأن رؤية الجميع غير شرط، لأنه قد يتعذر فاكتفى برؤية ما هو المقصود‏.‏ والوجه في الآدمي هو المقصود، ألا ترى أن الثمن يزداد وينقص بالوجه، وكذلك الوجه والكفل في الدابة؛ وأما الثوب فالمراد الثياب التي لا يخالف باطنها الظاهر، أما إذا اختلفا فلا بد من رؤية الباطن، وكذلك لا بد من رؤية العلم لأنه مقصود؛ وفي الدار لا بد من رؤية الأبنية، فإن لم يمكن يكتفي برؤية الظاهر؛ ولا بد في شاة اللحم من الجس وشاة الدر والنسل من النظر إلى الضرع مع جميع جسدها، واعتبر بهذا جميع المبيعات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن تصرف فيه تصرفا لازما أو تعيب في يده، أو تعذر رد بعضه، أو مات بطل الخيار‏)‏ وقد بيناه، ولأنه إذا تعذر رد البعض فرد الباقي إضرارا بالبائع، وكذلك رد المعيب؛ وأما الموت فلما ذكرنا أنه دخل في ملكه وبقي له خيار الرؤية، وخيار الرؤية لا يورث‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو رأى بعضه فله الخيار إذا رأى باقيه‏)‏ لأنه لو لزمه يكون إلزاما للبيع فيما لم يره وأنه خلاف النص، كذلك الإجازة في البعض لا تكون إجازة في الكل لما مر، ولا تصح الإجازة في البعض ورد الباقي لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما يعرض بالأنموذج رؤية بعضه كرؤية كله‏)‏ والأصل أن المبيع إذا كان أشياء إن كان من العدديات المتفاوتة كالثياب والدواب والبطيخ والسفرجل والرمان ونحوه لا يسقط الخيار إلا برؤية الكل لأنها تتفاوت، وإن كان مكيلا أو موزونا وهو الذي يعرض بالأنموذج أو معدودا متقاربا كالجوز والبيض فرؤية بعضه تبطل الخيار في كله، لأن المقصود معرفة الصفة وقد حصلت وعليه التعارف، إلا أن يجده أردأ من الأنموذج فيكون له الخيار، وإن كان المبيع مغيبا تحت الأرض كالجزر والشلجم والبصل والثوم والفجل بعد النبات إن علم وجوده تحت الأرض جاز وإلا فلا، فإذا باعه ثم قلع منه أنموذجا ورضي به، فإن كان مما يباع كيلا بالبصل، أو وزنا كالثوم والجزر بطل خياره عندهما، وعليه الفتوى للحاجة وجريان التعامل به، وعند أبي حنيفة لا يبطل، وإن كان مما يباع عددا كالفجل ونحوه، فرؤية بعضه لا يسقط خياره لما تقدم، ولو اختلفا في الرؤية فالقول للمشتري لأنه منكر؛ وكذلك لو اختلفا في المردود فقال البائع‏:‏ ليس هذا المبيع، وكذلك في خيار الشرط وفي الرد بالعيب القول قول البائع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن باع ملك غيره فالمالك إن شاء رده وإن شاء أجاز إذا كان المبيع والمتبايعان بحالهم‏)‏‏.‏ اعلم أن التصرفات الفضولي منعقدة موقوفة على إجازة المالك لصدورها من الأهل وهو الحر العاقل البالغ، مضافة إلى المحل لأن الكلام فيه، ولا ضرر فيه على المالك لأنه غير ملزم له، وتحتمل المنفعة فينعقد تصحيحا لتصرف العاقد العاقل وتحصيلا للمنفعة المحتملة، ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام دفع دينارا إلى حكيم بن حزام ليشتري به أضحية، فاشترى شاة ثم باعها بدينارين، واشترى بأحد الدينارين شاة، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالشاة والدينار، فأجاز صنيعه ولم ينكر عليه ودعا له بالبركة، وكان فضوليا لأنه باع الشاة واشترى الأخرى بغير أمره، وكل عقد له مجيز حال وقوعه يتوقف على إجازته، وما لا فلا، حتى إن إطلاق الفضولي وعتاقه ونكاحه وهبته لا ينعقد في حق الصبي والمجنون، وينعقد في حق العاقل البالغ، لأن عند الإجازة يصير الفضولي كالوكيل حتى ترجع الحقوق إليه، فإن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة، والصبي والمجنون ليسا من أهل الوكالة ولا المباشرة؛ وللفضولي الفسخ قبل الإجازة لئلا ترجع الحقوق إليه، وليس له ذلك في النكاح، لأن الحقوق لا ترجع فيه إليه لما عرف أنه سفير فيه، ولا بد من وجود المبيع والمتبايعين عند الإجازة، إذ لا بقاء للعقد بدونهم‏.‏ والإجازة‏:‏ إنفاذ العقد الموقوف، ولو كان العقد مقايضة يشترط بقاء العوضين والمتعاقدين لما بينا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏العيب في المبيع‏]‏

‏(‏مطلق البيع يقتضي سلامة المبيع‏)‏ لأن الأصل هو السلامة، وهو وصف مطلوب مرغوب عادة، والمطلوب عرفا كالمشروط نصا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب‏)‏ لأن الضرر بنقصان المالية وهم يعرفون ذلك، وهذا يغني عن ذكر العيوب وتعدادها، وإذا علم المشتري بالعيب عند الشراء أو عند القبض وسكت فقد رضي به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا اطّلع المشتري على عيب فإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن وإن شاء رده‏)‏ لأنه لم يرض به، وليس له أخذه وأخذ النقصان إلا برضى البائع، لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن بالعقد، وكذلك لو كان المبيع مكيلا أو موزونا، فوجد ببعضه عيبا ليس له أن يمسك الجيد ويرد المعيب، والأصل في هذا أن المشتري لا يملك تفريق الصفقة على البائع قبل التمام لما بينا ويملك بعده، وخيار الشرط والرؤية وعدم القبض يمنع تمام الصفقة، وبالقبض تتم الصفقة، والمراد قبض الجميع حتى لو قبض أحدهما ثم وجد بأحدهما عيبا إما أن يردهما أو يمسكهما؛ والمكيل والموزون كالشيء الواحد، ولا يملك رد البعض دون البعض لا قبل القبض ولا بعده، لأن تمييز المعيب زيادة في العيب، فكأنه عيب حادث حتى قيل لو كان في وعاءين له رد المعيب منهما بعد القبض لأنه لا ضرر، وكذا لو اشترى زوجي خف أو مصراعي باب فوجد بأحدهما عيبا قبل القبض أو بعده يردهما أو يمسكهما، وكذا كل ما في تفريقه ضرر، وما لا ضرر في تفريقه كالعبدين والثوبين إذا وجد بأحدهما عيبا إن كان قبل القبض ليس له رد أحدهما لأنه تفريق الصفقة قبل تمامها، وإن كان بعد القبض يجوز لأنه لا ضرر في تفريقها، لأن الصفقة قد تمت بالقبض، فجاز رد البعض كما لو اشترى من اثنين، واستحقاق البعض على هذا التفصيل ما يضره التبعيض فهو عيب، وما لا فلا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والإباق والسرقة والبول في الفراش ليس بعيب في الصغير الذي لا يعقل‏)‏ لأنه لا يقدر على الامتناع من هذه الأشياء وهو ضال لا آبق ‏(‏وعيب في الذي يعقل‏)‏ لأنه تعده التجار عيبا ‏(‏ويرد به إلا أن يوجد عند المشتري بعد البلوغ‏)‏‏.‏ اعلم أن جواز الرد إنما يثبت عند اتحاد الحال بأن فعل هذه الأشياء عند البائع والمشتري حالة الصغر أو حالة الكبر، أما إذا فعله عند البائع حالة الصغر، وعند المشتري حالة الكبر فليس له الرد، لأن شرط ثبوت الرد اتحاد سبب العيب، وأنه يختلف بالصغر والكبر، لأن الإباق والسرقة من الصغير لقلة مبالاته وقصور عقله، ومن الكبير لخبث طبيعته، والبول في الفراش من الصغير لضعف المثانة، ومن الكبير لداء في بطنه، فقد اختلف السببان، فكان العيب الثاني غير الأول فلا يجب الرد، بخلاف الجنون حيث له الرد لو جن عند البائغ في الصغر، وعند المشتري بعد البلوغ لأن السبب متحد، وهو آفة تحل الدماغ في الحالتين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وانقطاع الحيض عيب‏)‏ لأنه من داء، ومعناه إذا كانت ممن يحيض مثلها، وإنما يعرف ذلك بمضي المدة وأدناه شهران، وقيل لا يردها إلا إذا ادعت ارتفاعه بالحبل، ولو اشترى جارية على أنها تحيض وهي لا تحيض للإياس فهو عيب، لأنه اشتراها للحبل والآيسة لا تحبل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والاستحاضة عيب‏)‏ لأن استمرار الدم مرض، وعدم الختان عيب في الجارية والغلام إذا كانا كبيرين مولدين، أما إذا كانا صغيرين أو جلبين فليس بعيب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والبخر والدفر والزنا عيب في الجارية دون الغلام‏)‏ لأن ذلك يخل بالمقصود منها وهو الاستفراش والوثوق بكون الولد منه، والمراد من الغلام الاستخدام، ولا يخل ذلك به إلا أن يكون من داء فهو عيب فيه أيضا، وكذا إذا كان كثير الزنا يتبع الزواني لأنه يشتغل به عن الخدمة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والشيب والكفر والجنون عيب فيهما‏)‏ أما الشيب والجنون فلأنهما ينقصان المالية، والكافر تنفر الطباع من استخدامه ويقل الوثوق به لعداوة الدين، ولذا لا يجوز عتقه في بعض الكفارات وكل ذلك عيب، والنكاح والدين عيب فيهما لأنه نقص فيهما، والحبل عيب في الجارية دون بهائم بالعرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن وجد المشتري عيبا وحدث عنده عيب آخر رجع بنقصان العيب، ولا يرده إلا برضا البائع‏)‏ لأن من شرط الرد أن يرده كما قبضه دفعا للضرر عن البائع، فإذا تعذر ذلك بأن عجز عن استيفاء حقه في الجزء الفائت وعن الوصول إلى رأس ماله يثبت له حق الرجوع ببدل الفائت دفعا للضرر عنه، ونقصان العيب أن يقوّم صحيحا ويقوم معيبا، فما نقص فهو حصة العيب فيرجع بها من الثمن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن صبغ الثوب أو خاطه أو لت السويق بسمن ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه‏)‏ لأن الرد قد تعذر لأنه لا يمكن الفسخ بدون الزيادة وهي لم تكن في العقد فيرجع بالنقصان، وليس للبائع أخذه لما فيه من الضرر بالمشتري، والزيادة المنفصلة الحادثة قبل القبض لا تمنع الرد بالعيب وبعده تمنع، وذلك مثل الولد والعقر والأرش والثمرة لأنها مبيعة ملكت بالبيع وهي غير مقصودة ليقابلها الثمن، لأن الأصل بجميع الثمن، فلا يمكن ردها فتبقى سالمة للمشتري بغير عوض وأنه ربا، ولهذا لا يملك ردها برضا البائع، ولو مات الولد يرد الأم، ولو استهلكه هو أو غيره لا ترد، والكسب والغلة لا يمنع الرد بجميع الثمن فكذا سلامة بدلها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن مات العبد أو أعتقه رجع بنقصان العيب‏)‏ وكذلك التدبير والاستيلاد؛ أما الموت فلأنه إنهاء للملك والامتناع من جهة الشرع؛ وأما العتق فهو إنهاء أيضا، لأن الملك إنما يثبتت في الآدمي موقتا إلى وقت العتق، والمنتهى متقرر فصار كالموت فقد تعذر الرد وهذا استحسان؛ والقياس أن لا يرجع في العتق، لأن الامتناع من جهته كالقتل، ولو أعتقه على مال أو كاتبه لا يرجع لأن حبس البدل كحبس المبدل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن قتله أو أكل الطعام لم يرجع‏)‏ أما القتل فلأنه وصل إليه عوضه معنى وهو سقوط الضمان عنه‏.‏ وعن أبي يوسف أنه يرجع، لأنه قتل المولى عبده لا يتعلق به ضمان؛ وأما الأكل فلأنه تعذر الرد بفعل مضمون منه فصار كالقتل، وقالا‏:‏ يرجع استحسانا لأنه عمل بالمبيع ما هو المقصود منه بالشراء والمعتاد فيه فصار كالإعتاق‏.‏ قلنا‏:‏ لا اعتبار بكون الفعل مقصودا، فإن المبيع مقصود بالشراء ومع ذلك يمنع الرجوع، وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرّق، ولو أكل بعض الطعام فكذا الجواب عنده‏.‏ وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الجميع‏.‏ وعنهما يرد ما بقي ويرجع بنقصان ما أكل لأنه لا يضره التبعيض وعليه الفتوى، وفي كل موضع كان للبائع أخذه كالعيب الحادث ونحوه فباعه المشتري أو أعتقه لم يرجع بالنقصان، وفي كل موضع ليس له أخذه بسبب الزيادة فباعه أو أعتقه المشتري رجع بالنقصان؛ ومن اشترى بطيخا أو خيارا أو بيضا أو نحوه فكسره فوجده فاسدا، فإن كان بحال لا ينتفع به رجع بكل الثمن لأنه ليس بمال، وإن كان ينتفع به مع الفساد رجع بالنقصان لأنه تعذر الرد، لأن الكسر عيب حادث فيرجع بالنقصان لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن شرط البراءة من كل عيب فليس له الرد أصلا‏)‏ لأنه إسقاط والإسقاط لا يفضي إلى المنازعة فيجوز مع الجهالة، ولو حدث عيب بعد البيع قبل القبض دخل في البراءة عند أبي يوسف خلافا لمحمد وزفر لأنه لم يوجد وقت الإبراء فلا يتناوله، ولأبي يوسف أن المقصود سقوط حق الفسخ بالعيب وذلك البراءة عن الموجود والحادث، ولو أبرأه من كل غائلة‏.‏ قال أبو يوسف‏:‏ هي السرقة والإباق والفجور دون المرض، لأن الغائلة تختص بالفعل، وإن أبرأه من كل داء‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ الداء ما في الجوف من طحال أو كبد أو فساد حيض، وما سوى ذلك يسمى مرضا‏.‏ وقال أبو يوسف هو المرض‏.‏ ولو قال برئت إليك من كل عيب بعينه فإذا هو أعور، أو من كل عيب بيده فإذا هو أقطع لا يبرأ لأنه ليس بعيب بالمحل بل هو عدم المحل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا باعه المشتري ثم رد عليه بعيب إن قبله بقضاء رده على بائعه‏)‏ لأنه فسخ من الأصل فجعل كأن لم يكن، وهو وإن أنكر فقد صار مكذبا شرعا ‏(‏وإن قبله بغير قضاء لم يرده‏)‏ لأنه بيع جديد في حق ثالث لوجود حده وهو التمليك والتملك، وإن رد عليه بعيب لا يحدث مثله رده عليه أيضا لأن الرد متعين فيه فيستوي فيه القضاء وعدمه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويسقط الرد بما يسقط به خيار الشرط‏)‏ وقد ذكرت فيه، وذكر البعض هنا أيضا‏.‏

فصل‏:‏ في التلجئة

وهي في اللغة‏:‏ ما ألجئ إليه الإنسان بغير اختياره، ولما كان هذا العقد إنما يعقد عند الضرورة سموه تلجئة لما فيه من معنى الإكراه، وفيه ثلاث مسائل‏:‏ إحداهما أن تكون التلجئة في نفس المبيع، مثل أن يخاف على سلعته ظالما أو سلطانا فيقول‏:‏ أنا أظهر البيع وليس ببيع حقيقة وإنما هو تلجئة ويشهد على ذلك، ثم يبيعها في الظاهر من غير شرط‏.‏ حكى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن العقد جائز‏.‏ وروى محمد في الإملاء أنه باطل ولم يحك خلافا، وهو قول أبي يوسف ومحمد‏.‏ وجه الأولى أنهما عقدا عقدا صحيحا وما شرطاه لم يذكراه فيه، فلا يؤثر فيه كما إذا اتفقا أن يشرطا شرطا فاسدا ثم تبايعا من غير شرط‏.‏ ووجه الثانية أنهما اتفقا على أنهما لم يقصدا العقد فصارا كالهازلين فلا ينعقد‏.‏ الثانية أن تكون في البدل بأن يتفقا على ألف في السر ويتبايعا في الظاهر بألفين‏.‏ روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الثمن ثمن العلانية‏.‏ وروى محمد في الإملاء أن الثمن ثمن السر من غير خلاف وهو قولهما، لأنهما اتفقا أنهما لم يقصدا الألف الزائدة فكأنهما هزلا بها‏.‏ وجه الأول أن المذكور في العقد هو والذي يصح العقد به، وما ذكراه سرا لم يذكراه حالة العقد فسقط حكمه‏.‏ الثالثة اتفقا أن الثمن ألف درهم وتبايعا على مائة دينار‏.‏ قال محمد‏:‏ القياس أن يبطل العقد، والاستحسان أن يصح بمائة دينار‏.‏ وجه القياس أن الثمن الباطن لم يذكراه في العقد والمذكور لم يقصداه فسقط فبقي بلا ثمن فلا يصح‏.‏ وجه الاستحسان أن المقصود البيع الجائز لا الباطل، ولا جائز إلا بثمن العلانية كأنهما أضربا عن السر وذكرا الظاهر، وليس هذا كالمسألة الأولى لأن المشروط سرا مذكور في العقد وزيادة وتعلق العقد به، ويثبت لهما الخيار في بيع التلجئة لأنهما لم يقصدا زوال الملك فصار كشرط الخيار لهما فيتوقف على إجازتهما، ولو ادعى أحدهما التلجئة لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي انفساخ العقد بعد انعقاده، ويستحلف الآخر لأنه منكر‏.‏